فصل: فَـصــل: في قبور الأنبياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فَصــل

وولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الهدي ودين الحق، وبإنكار ما نهى عنه وما نسب إليه بالباطل من الكذب والبدع‏.‏ إما جهلا من ناقله، وإما عمدا، فإن أصل الدين هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏ ورأس المعروف هو التوحيد، ورأس المنكر هو الشرك‏.‏ وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدي ودين الحق، به فرق الله بين التوحيد والشرك، وبين الحق والباطل، وبين الهدي والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين المعروف والمنكر‏.‏ فمن أراد أن يأمر بما نهى عنه، وينهى عما أمر به، ويغير شريعته ودينه، إما جهلا وقلة علم، وإما لغرض وهوي، كان السلطان أحق بمنعه بما أمر الله به ورسوله‏.‏ وكان هو أحق / بإظهار ما جاء به الرسول من الهدي ودين الحق‏.‏ فإن الله ـ سبحانه ـ لابد أن ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏ فمن كان النصر على يديه كان له سعادة الدنيا والآخرة، وإلا جعل الله النصر على يد غيره، وجازي كل قوم بعملهم، وما ربك بظلام للعبيد‏.‏

والله ـ سبحانه ـ قد وعد أنه لا يزال هذا الدين ظاهرا ولا يظهر إلا بالحق، وأنه من نكل عن القيام بالحق استبدل من يقوم بالحق، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا إلىمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38، 39‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ علىمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وقد أري الله الناس في أنفسهم والآفاق ما علموا به تصديق ما أخبر به تحقيقا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏

 فَـصــل

وأما قبور الأنبياء، فالذي اتفق عليه العلماء هو ‏[‏قبر النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ فإن قبره منقول بالتواتر، وكذلك قبر صاحبيه، وأما ‏[‏قبر الخليل‏]‏ فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره، وأنكر ذلك طائفة، وحكي الإنكار عن مالك، وأنه قال‏:‏ ليس في الدنيا قبر نبي يعرف إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن جمهور الناس على أن هذا قبره، ودلائل ذلك كثيرة، وكذلك هو عند أهل الكتاب‏.‏

ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين، ولو كان من الدين لحفظه الله كما حفظ سائر الدين، وذلك أن عامة من يسأل عن ذلك إنما قصده الصلاة عندها، والدعاء بها، ونحو ذلك من البدع المنهى عنها‏.‏ ومن كان مقصوده الصلاة والسلام على الأنبياء والإيمان بهم وإحياء ذكرهم فذاك ممكن له، وإن لم / يعرف قبورهم ـ صلوات الله عليهم‏.‏ وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصاري الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وما يشبه هذا من الحديث‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن ‏[‏قبور الأنبياء‏]‏ عليهم الصلاة والسلام، هل هي هذه القبور التي تزورها الناس إلىوم‏؟‏ مثل قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ويونس، وإلىاس، وإلىسع، وشعيب، وموسي، وزكريا، وهو بمسجد دمشق‏.‏ وأين قبر على ابن أبي طالب‏؟‏ فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره‏.‏ وأما يونس، وإلياس، وشعيب، وزكريا، فلا يعرف‏.‏ وقبر على بن أبي طالب بقصر الإمارة الذي بالكوفة، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة‏:‏ إنه قبر هود، والله أعلم‏.‏

/ وسُــئل‏:‏

هل المشاهد المسماة باسم على بن أبي طالب وولده الحسين ـ رضي الله عنهما ـ صحيحة أم لا‏؟‏ وأين ثبت قبر على‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما هذه المشاهد المشهورة، فمنها ما هو كذب قطعا، مثل المشهد الذي بظاهر دمشق المضاف إلى ‏[‏أبي بن كعب‏]‏، والمشهد الذي بظاهرها المضاف إلى ‏[‏أويس القرني‏]‏، والمشهد الذي بمصر المضاف إلى ‏[‏الحسين‏]‏ ـ رضي الله عنه ـ إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول ذكرها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار، حتى قال طائفة من العلماء؛ منهم عبد العزيز الكناني‏:‏ كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت غيره ـ أيضا ـ قبر الخليل عليه السلام‏.‏

وأما ‏[‏مشهد علي‏]‏، فعامة العلماء على أنه ليس قبره، بل قد قيل‏:‏ إنه قبر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه إنما أظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت على في إمارة بني بويه، وذكروا أن أصل ذلك حكاية /بلغتهم عن الرشيد أنه أتي إلى ذلك المكان وجعل يعتذر إلى من فيه مما جري بينه وبين ذرية على، وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء‏.‏ فالرشيد ـ أيضاً ـ لا علم له بذلك‏.‏ ولعل هـذه الحكايـة إن صحت عنـه فقـد قيل له ذلك كما قيل لغيره، وجمهور أهل المعرفة يقولون‏:‏ إن علىاً إنما دفن في قصر الإمارة بالكوفة أو قريبا منه‏.‏ وهكذا هو السـنة؛ فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة، أمر غير مشروع، فلا يظن بآل على ـ رضي اللّه عنه ـ أنهم فعلوا به ذلك، ولا يظن ـ أيضاً ـ أن ذلك خفي على أهـل بيته وللمسلمين ثلاثمائة سنة، حتى أظهره قوم من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء‏.‏

وكذلك ‏[‏قبر معاوية‏]‏ الذي بظاهر دمشق، قد قيل‏:‏ إنه ليس قبر معاوية، وأن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال‏:‏ إنه ‏[‏قبر هود‏]‏‏.‏

وأصل ذلك أن عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق، لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في قليل منها بعد بحث شديد‏.‏ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه، حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏9‏]‏،بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم / عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏

وقد اتفق أئمة الإسلام علي أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد علي القبور ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا يشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة أو اعتكاف أو استغاثة أو ابتهال أو نحو ذلك، وكرهوا الصلاة عندها، ثم إن كثيرًا منهم قال‏:‏ إن الصلاة عندها باطلة، لأجل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها‏.‏

وإنما السنة لمن زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما، أن يسلم عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة علي جنازته، كما جمع الله بين هذه حيث يقول في المنافقين‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَلِّ عَلَي أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَي قَبْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام علي قبورهم‏.‏ وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا /دفن الميت من أصحابه يقوم علي قبره ثم يقول‏:‏ ‏(‏سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل‏)‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أنه كان يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم‏)‏‏.‏

وإنما دين الله تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له، وهي المساجد التي تشرع فيها الصلـوات جماعـة وغـير جماعة، والاعتكاف، وسائر العبادات البدنية، والقلبية؛ من القراءة والذكر والدعـاء لله، قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعـراف‏:‏ 29‏]‏، وقـال تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإلىوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏، وقـال تعإلى‏:‏ ‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فهذا دين المسلمين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين‏.‏

/وأما اتخاذ القبور أوثانًا فهو دين المشركين الذي نهى عنه سيد المرسلين والله تعإلى يصلح حال جميع المسلمين‏.‏ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله علي محمد‏.‏